حدث رسول
الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يومًا عن رجل أنه قال: اللهم كان لي
أبوان شيخان كبيران، ليس لهما خادم ولا راع ولا ولي غيري، فكنت أرعى لهما بالنهار
وآوي إليهما بالليل، وكنت لا أُغْبقُ قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي في طلب شيءٍ يومًا فلم أُرِحْ
عليهما حتى ناما،
فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أُغْبِقَ قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما والصبية يتضاغون عند قدمي حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما. أنموذج من البر عجيب، يكاد المرء يظنه ضربًا من الخيال .
فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أُغْبِقَ قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما والصبية يتضاغون عند قدمي حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما. أنموذج من البر عجيب، يكاد المرء يظنه ضربًا من الخيال .
بر الوالدين وصية الله للإنسان (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ)، (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) ، (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
بر الوالدين من صفات الأنبياء، فهذا عيسى عليه السلام قال عن نفسه (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) وأثنى الله على يحيى عليه السلام فقال (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) وهذا إسماعيل عليه السلام وما كان من شأنه مع أبيه (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ) ، بل انظر خليل الرحمن في قصته مع أبيه كيف تلطف معه أيما تلطف، وكيف خاطبه بأرق عبارة تفيض برًا وإحسانًا (إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ، يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ، يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) ، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان من خبره ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال(استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يُؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي)، وقال أبو الطفيل رضي الله عنه : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لحمًا بالجعرانة وأنا غلام شاب، فأقبلت امرأة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسط لها رداءه فقعدت عليه فقلت: من هذه؟ قالوا: أمّه التي أرضعته.
بر الوالدين قرنه الله بأعظم وأول واجب على المكلف (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أقبل رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الجهاد والهجرة أبتغي الأجر. قال (فهل من والديك أحد حي)؟ قال: نعم بل كلاهما. قال (فتبتغي الأجر من الله؟). قال: نعم. قال(فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما).
حق الوالدين عظيم، ومعروفهما لا يجازى، وان من حقهما المحبة والتقدير، والطاعة والتوقير، والتأدب أمامهما، وصدق الحديث معهما، وتحقيق رغبتهما في المعروف، والانفاق عليهما ما استطعت ،ادفع عنهما الأذى فقد كانا يدفعان عنك الأذى. لا تحدثهما بغلظة أو خشونة أو رفع صوت. جنبهما كل ما يورث الضجر (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا) تخير الكلمات اللطيفة، والعبارات الجميلة والقول الكريم ، تواضع لهما، واخفض لهما جناح الذل رحمة وعطفاً وطاعة وحسن أدب، لقد أقبلا على الشيخوخة والكبر، وتقدما نحو العجز والهرم بعد أن صرفا طاقتهما وصحتهما وأموالهما في تربيتك وإصلاحك. تأمل حفظك الله قول ربك (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ) إن كلمة (عندك) تدل على معنى التجائهما واحتمائهما وحاجتهما، فلقد أنهيا مهمتهما، وانقضى دورهما، وابتدأ دورك، وها هي مهمتك (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) قال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن لي أماً بلغ منها الكبر أنها لا تقضي حوائجها إلا وظهري لها مطية، فهل أديت حقها؟ قال: لا. لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه وأنت تتمنى فراقها، ولكنك محسن، والله يثيب الكثير على القليل.
نعم إن حقهما عظيم ولكن الجأ إلى الدعاء لهما في حال الحياة وبعد الممات اعترافاً بالتقصير، وأملاً فيما عند الله (رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا)
بر الوالدين يستمرّ في ذرية الإنسان وعقبِه من بعده، عن ابن عمر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعِفّوا تعِف نساؤكم)كذلك بر الوالدين يزيد في العمر، عن سهل بن معاذ رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال(من بر والديه طوبى له، زاد الله في عمره).
كتب أحد السلف إلى أبيه رسالة كتب في آخرها: (جُعِلت فداك)، فبكى الوالد وردّ عليه وقال: (لا تكتب هكذا بعد اليوم، فأنت على يومي أصبر مني على يومِك). وذُكِر أن رجلاً ضرب بمال لم يؤده ، فأتي بولده فضرِب، فجعل الرجل يبكي بكاء الطفل فقالوا له: ما لك؟! فقال: ضرِب جلدي فصبرت، وضرِبَت كبدي فلم أصبر.
هكذا الأبوان يشقيان لتسعد، ويتعبان لترتاح، إذا مرضت سهرا على مداواتك، وإذا بكيت بحثا عن رضاك، وإذا ضحكت فرحا، وإذا نهضت أتبعاك النظر، وإذا جلست أتبعاك الدعاء.
ولقد فقه الصالحون هذا الأمر فضربوا أروع الأمثلة في بر الوالدين والإحسان إليهما، فهذا ابن عمر رضي الله عنه يلقى رجلاً من الأعراب بطريق مكة فيسلّم عليه عبد الله ويحمله على حمار كان يركبه ويعطيه عمامة كانت على رأسه، فقال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب، وإنهم يرضون باليسير! فقال عبد الله: إن أبا هذا كان وِدًا لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه). وهذا زين العابدين علي بن الحسين قيل له: إنك من أبرّ الناس بأمّك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة! فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها. وكان طلق بن حبيب لا يمشي فوق ظهر بيت وأمه تحته إجلالاً لها وتوقيرًا. وكان الفضل بن يحيا يُدْفئ الماء لأبيه وهما في السّجن، فيضع الدلو عند المصباح ويمسكه طوال الليل، فعرف السجان ذلك فأخذ المصباح في الليلة التي بعدها، فجعل الفضل يضمّ الوعاء إلى جلده وبطنه طوال الليل فإذا طلع الفجر كان الماء فاترًا فأعطاه أباه ليتوضأ به. وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: لما مات أبي عبد الله ما سألت الله حولاً كاملاً إلا العفو عنه. وهذا ابن عون نادته أمه فأجابها فَعَلا صوته صوتَها فأعتق رقبتين يرى أنهما كفارة لما فعل ، وكان محمد بن سيرين إذا كلم أمه كأنه يتضرع، وقال ابن عوف: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه، فقال: ما شأن محمد؟! أيشتكي شيئًا؟! قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه ، وهذا حيوة بن شريح يقعد في حلقته يعلّم الناس ويأتيه الطلاب من كل مكان ليسمعوا عنه، فتقول له أمه وهو بين طلابه: قم ـ يا حيوة ـ فاعلف الدجاج، فيقوم ويترك التعليم ، وبكى إياس بن معاوية حين ماتت أمه بكاء شديدًا، فقيل له في ذلك فقال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فأغلق أحدهما، وحُقّ لعين بكاها. وقال محمد بن المنكدر بات أخي عمر يصلي وبتّ أغمز قدم أمي وما أحبّ أن ليلته بليلتي.
هذه نماذج بر السلف لآبائهم وأمهاتهم، فما بال البعض اليوم يقصرون في بر آبائهم وأمهاتهم، وربما عق أحدهم والديه من أجل إرضاء زوجته أو صديق له، أو أبكى والديه وأغضبهما من أجل سفر هنا أو هناك أو متعة هنا أو هناك.
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هل بقي علي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال صلى الله عليه وسلم (نعم الصلاة عليهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما من بعدهما)
البر
بجميع وجوهه: زيادة في العمر، وكثرة في الرزق، وصلاح في الأبناء، فمن بر والديه
بره أبناؤه. والعقوق خيبة وخسارة وخذلان.
دمتم بخير
..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق